قيمك الحقيقية: كيف تكتشف ما يحركك حقا؟
في كل يوم، نواجه العديد من القرارات الصغيرة والكبيرة: كيف نوزع وقتنا؟ من نقضي وقتنا معه؟ هل نقول "نعم" لهذا المشروع أو "لا"؟ كما لو أننا نسير في سوق صاخب، يُنادى علينا من كل زاوية: "اتخذ هذا القرار!"، "امضِ في هذا الاتجاه!"، "دعك من قلبك واتبع المنطق!"... وفي غمرة هذا الضجيج، نفقد أحيانًا القدرة على تمييز صوتنا الداخلي، وتضيع بوصلة الاتجاه، فنتيه بلا إدراك، نركض كثيراً لكن لا نعرف لماذا، نُنجز بلا طعم، ونقف أمام مفترقات طرق دون دليل.

لكن ماذا لو أخبرتك أن في داخلك خريطة؟ ليست خريطة ورقية أو رقمية، بل منظومة حية، متجددة، هي قيمك الجوهرية. القيم ليست شعارات نُعلّقها على الجدران أو نكتبها في السير الذاتية؛ هي كالحمض النووي النفسي
كما أن لكل إنسان بصمة جينية تميّزه، فإن لكل شخص منظومة قيم خاصة لا تتطابق تماماً مع أحد. بعض القيم ورثناها بلا وعي، وبعضها شكلّته جراحنا، وبعضها اكتشفناه بعد رحلات التيه والانكسار.
اكتشاف قيمك يشبه رحلة كشف للحمض النفسي الذي يشكّلك. من هنا يبدأ التحول الحقيقي، لأنك لا تعيش على إملاءات الآخرين، بل على نداءك الداخلي.
تخيل إنسانًا بلا وعي بقيمه بوضوح، كمن يحاول بناء بيت على رمال متحركة؛ مهما بلغ جمال التصميم، سينهار عند أول عاصفة. أما القيم، فهي الجذور التي تثبت الشجرة في الأرض، تمنحها القوة لتقاوم الرياح، وتجعلها تنمو باستقامة نحو السماء.
لكن كيف نعرف ما هي هذه الجذور؟ كيف نُميّز بين القيم المزروعة فينا بفعل المجتمع، والأسرة، والتجارب، وبين القيم الأصيلة التي تُشكل لبّ هويتنا؟ هنا يأتي دور الوعي العميق
قيمك هي ليست أهدافاً (مثل شراء منزل أو الحصول على ترقية)، بل هي السبب الذي يجعلك تريد هذه الأشياء من الأساس.
مثلاً:
شخص يقدّر "الاستقلالية" قد يسعى لتأسيس مشروع خاص.
شخص يقدّر "الانتماء" قد يختار وظيفة في بيئة جماعية حتى لو لم تكن بأعلى راتب.
شخص يقدّر "التعلم المستمر" قد يشعر بالضيق في وظيفة تكرارية لا تقدم له تحديات.
ثلاث عدسات لاكتشاف القيم التي تحركك
هناك ثلاثة معايير يمكن أن تساعدك في اكتشاف القيم التي تكون أكثر أهمية بالنسبة لك، خاصة عندما تكون هذه القيم عالية في ترتيب أولوياتك. دعنا نستكشف هذه المعايير معاً :
1. الرضا والبهجة: لغة الروح التي لا تُخطئ
تعتبر مشاعر الرضا والبهجة من أبرز الدلائل على أن أفعالك تتماشى مع قيمك الحقيقية. عندما تقوم بعمل يتوافق مع قناعاتك الداخلية، تشعر بفرح عميق ورضا. قيمك وأفعالك.لا يُشبه أي شعور آخر. إنه مزيج من الرضا العميق، البهجة الهادئة، والسلام الداخلي. يشبه الأمر وكأنك عدت إلى بيتك بعد غياب طويل، أو كأنك تنفست هواء نقيًا بعد اختناق.
هذه المشاعر ليست "مزاج جيد"، بل إشارات خفية من روحك تخبرك: "أنت على الطريق الصحيح". فإن كنت تُقدّر الإبداع، فستشعر بالنشوة حين تبتكر شيئ جديد، حتى وإن لم يعجب أحد. وإن كانت قيمة التنظيم تعني لك الكثير، فستشعر بالارتياح حين ترتب يومك أو تنظم مكتبك، ولو لم يرك أحد. .
غالبًا هذا الشعور بالرضا لا يرتبط فقط بالنتيجة، بل بطريقة القيام بالأمر.
هل شعرت بالرضا لأنك كنت صادقاً في موقف صعب؟ → قيمة الصدق.
هل ارتحت لأنك أنجزت مهمة بشكل منظم ومرتب؟ → قيمة النظام.
هل استمتعت لأنك ساعدت شخصاً بدون مقابل؟ → قيمة العطاء أو الإحسان.
هذه اللحظات تكشف ما يهمك فعلاً، وليس ما تعتقد أنه يفترض أن يكون مهماً.
2. الدافع والسعي: ما الذي يُوقظك حين يُخيّم عليك التعب؟
ما الشيء الذي يجعلك تنهض في الأيام الثقيلة؟ ما الفكرة التي تراودك عندما تُفكر بـ"السبب" خلف كل ما تفعل؟ هذا هو وجه القيمة الخفية. القيم الحقيقية تُشبه نبعًا لا يجف، تدفعك من الداخل حتى في أصعب اللحظات.
مثلًا، إذا كانت الحرية قيمة أساسية لديك، فستجد نفسك تميل للاستقلال في العمل، ترفض القيود الزائدة، وربما تغامر بمشروعك الخاص رغم عدم ضمان النجاح. أما إن كانت العدالة هي ما يُحرّكك، فقد تجد نفسك تدافع عن الآخرين، حتى وإن كلفك ذلك راحة بالك.
شخص يواصل تطوير نفسه بعد ساعات العمل لأنه يقدّر النمو والتوسع.
أم توازن بين عملها وأسرتها بدقة لأنها تضع الاستقرار والسلام ضمن أولوياتها.
سلوكك في الظروف الصعبة يكشف عن القيم التي لا تتنازل عنها بسهولة.
القيمة لا تُخبرك فقط بما تحب، بل تكشف ما لا تحتمله.
3. الخط الأحمر:متى تشعر بأنك خُنت نفسك
ثمة مواقف تثير فيك غضبًا غير مبرر ظاهريًا، أو إحباطًا مبالغًا فيه. لكن لو أمعنت النظر، ستكتشف أنها مسّت "خطًا أحمرًا" داخليًا. قيمة لا تُساوم عليها.
إذا كانت المسؤولية ذات أولوية عندك، فقد يُصيبك تصرف غير مبالٍ من زميلك في العمل بغضب مضاعف. ليس لأنه خذلك فحسب، بل لأنه خالف قيمة تشعر أنها جزء من هويتك.
تتجلى القيم بوضوح في لحظات الصدام. هي التي تُخبرك، من دون مقدمات، بما لا تستطيع قبوله. كلما احترمت هذا الحد، زاد شعورك بالانسجام. وكلما خرقته، شعرت كأنك تخون نفسك بصمت.
الأشياء التي تزعجك كثيرًا غالبًا تشير إلى قيم يتم انتهاكها أمامك.
هل تشعر بالإحباط عندما يتأخر الآخرون أو لا يلتزمون بمواعيدهم؟ → قيمة الالتزام.
هل تنزعج من النفاق أو المبالغة؟ → قيمة الشفافية أو الأصالة.
هل تضايقك الاجتماعات الطويلة وغير الضرورية؟ → قد تكون تقيّم الفعالية وتقدير الوقت.
الغضب أو التوتر في مواقف معينة ليس دائماً بسبب الأشخاص الآخرين، بل بسبب تصادم هذه المواقف مع قيمك.
مدى تفعيلك لقيمك أو تجاهلك لها هو ما يشكل قوة ردود أفعالك تجاه المواقف المختلفة
ماذا يحدث عندما لا تعرف قيمك أو تتجاهلها؟
قد تقبل وظيفة لا تناسبك فقط لأنها تبدو جيدة على الورق.
قد تستمر في علاقات تستنزفك لأنك لم تحدد ما الذي تحتاجه فيها.
قد تشعر بالفراغ رغم الإنجاز لأنك تعمل بناء على أهداف الآخرين، لا قيمك.
من دون وضوح في القيم، تصبح قراراتك مبنية على التوقعات أو الضغط الاجتماعي، وليس على ما يناسبك فعلاً.
كيف تستعيد الاتصال بقيمك العميقة؟
في كثير من الأحيان نخلط بين القيم والسلوك، فنظن أن “الإنتاجية” أو “النجاح” هي قيم، بينما هي مجرد نتائج. القيم الحقيقية تسكن أعمق… خلف الأفعال، خلف القرارات، خلف حتى الشعور بالرضا أو التوتر. هذا التمرين ليس لاكتشاف قائمة جاهزة من القيم، بل لحفر واعٍ لاكتشاف ما يمنح حياتك معنىً وصدقًا.
المرحلة الأولى: سؤال الدافع العميق – ليه؟"
اختر موقف يومي أو قرار اتخذته مؤخر — بسيط أو كبير.
مثال: “أنا أحرص دائم على إنهاء المهام قبل الوقت.”
ابدأ بسؤال نفسك:
ليه طيب؟
عشان أحس براحة وأخلص من التوتر.
ليه يهمّك تقلل التوتر؟عشان أقدر أكون حاضرة أكتر مع نفسي ومع اللي أحبهم.
ليه تهمّك الحضور والاتصال؟لأني أقدّر السلام الداخلي، ولأن الاتصال الحقيقي مع نفسي ومع الآخرين يعطيني شعور بالأمان.
القيمة هنا ليست الإنتاجية بل (السلام الداخلي) و(الصدق في العلاقة".
لاحظ كيف الحفر بالسؤال يكشف شيئاً أعمق من ظاهر الفعل.
تمرين:
كل يوم لمدة 3 أيام، خذ سلوك واحد وابدأ بـ"ليه؟" واسألها على الأقل 4 مرات. ولا تقبل الإجابات السطحية.
المرحلة الثانية: مرآة "أنا مو قاعد أكون نفسي!"
استرجع لحظة شعرت فيها بأنك "ما كنت نفسك". كأنك تلبس شخصية ما، تجامل، تسكت، تتنازل، أو تتظاهر بالراحة.
اكتبها بالتفصيل، ثم اسأل:
"وش كان الشي اللي داخلي يقول: هذا مو أنا؟"
"وش القيمة اللي تم تجاهلها هنا؟"
"وش كان بيصير لو كنت صادق مع نفسي بهذيك اللحظة؟"
→ هذه الطريقة تكشف قيمك من خلال الألم أو التنازل، مو بس من خلال الإنجاز.
المرحلة الثالثة: الفرق بين (أنا أحسن) وأنا أصح
اختر موقفين:
موقف تصرّفت فيه بطريقة تجعل الآخرين ينبهرون أو يشوفونك بشكل إيجابي.
موقف تصرّفت فيه بطريقة تخلّيك تحترم نفسك أكثر حتى لو ما حد شافك.
ثم اسأل:
في الموقف الأول، إيش كنت أحاول أثبت؟ لمين؟
في الموقف الثاني، إيش اللي خلاني أوقف وأقول “أنا كنت حقيقية”؟
→ هذا التمرين يوضح لك الفرق بين "قيم الواجهة" و"قيم الجوهر".
المرحلة الرابعة: جملة أنا أكون نفسي لما...
املأ الفراغات التالية بعفوية، بدون محاولة التنميق:
أنا أكون نفسي لما أسمح لـــ...
أنا أكون نفسي لما أتوقف عن...
أنا أكون نفسي لما أختار أن...
أنا أكون نفسي لما أقول "لا" لــــ...ـ
اقرأ إجاباتك بصوت واضح. ستظهر خلف الكلمات مشاعر، ومعها تبدأ القيم في التشكّل.
المرحلة الخامسة: ترجمة مشاعرك إلى قيم
اكتب قائمة مشاعر متكررة تمرّ بها (فرح، ضيق، راحة، ثقل، إلهام، استنزاف...)
ثم اسأل:
هذه المشاعر جايه من إيش؟
لما أحس بالثقل مثلاً، إيش يكون مفقود؟ ولما أحس بالراحة، إيش يكون حاضر؟
مثال:
لما أحس بالإلهام → غالباً تكون "حرية التعبير" حاضرة.
لما أحس بالثقل → غالباً "الحدود" أو "الوضوح" غائبة.
لما أحس بالراحة → غالباً "الصراحة" أو "الانتماء" موجودة.
هكذا تبدأ بربط الشعور الداخلي بالقيم، دون الحاجة لتعريف نظري لها.
بعد ممارسة هذه التمارين على مدى أسبوع، ستلاحظ أن بعض القيم تتكرر في أكثر من موقف، سواء في مشاعر الراحة أو الضيق. اجمعها، وابدأ بتجربتها كـ"فرضية شخصية":
"هل فعلاً لما أعيش بقيمة [الحرية/الأصالة/السلام]، أحس أني أنا؟"
الاختبار ليس ذهنيًا فقط، بل بالشعور: هل جسدك وعقلك وروحك مرتاحين عندما تتصرف وفق هذه القيمة؟
القيم ليست شعارات نرفعها، بل إحساس داخلي بالاتساق. حين تقترب منها، تشعر أنك "ترجع لك"، وتبدأ قراراتك وسلوكك تستمد معناها من هذا الرجوع. خذ وقتك مع هذا التمرين، ودع إجاباتك تتشكّل من الداخل، لا من التوقعات.